الجمعة، 18 سبتمبر 2015

العقارات الحبسية ونزع الملكية من أجل المنفعة العامة

العقارات الحبسية ونزع الملكية من أجل المنفعة العامة

تعرف وتيرة الاعتداء على العقارات التابعة للأحباس نموا مطردا، سواء من طرف الأفراد أو المؤسسات والإدارات العامة والخاصة أيضا. إلا أن هذا الاعتداء يجب أن لا يحجب عنا واقع الاستنزاف الذي يعرفه الرصيد العقاري الحبسي باسم القانون. ومن ذلك نزع ملكية العقارات الحبسية باسم المنفعة العامة.
وإذا كان نزع الملكية للمنفعة العامة -كاستثناء من قاعدة حق التملك- إنما شرع حرصا على المصلحة العامة، والتي لها الأولوية على المصالح الخاصة، فإن هذا لا يعني الدوس على المصالح الخاصة تحت مبرر تحقيق المصلحة العامة. لأن الفرد الذي قبل طوعا أو كرها أن يذوب في كيان الجماعة الجامع إنما قبل ذلك باعتبار ما ينتظر من هذه الجماعة أن تحفظ من المصالح، والتي لم تكن لتتحقق لو ترك كل فرد يتصرف حسب ما تمليه عليه أنانيته ومصالحه.
وبهذا يظهر مدى الحاجة الملحة لوضع ضوابط واضحة، من شأنها أن تحول دون أن تصبح المصلحة العامة مطية للقضاء على المصالح الخاصة، أو مصالح عامة أخرى.
وقد أصبح القضاء في الدول التي تعرف بالمتقدمة، كالقضاء الفرنسي، يلعب دورا مهما في ابتكار عدد من الضوابط التي مكنته من التوفيق بين حق الأفراد في التملك وحاجة المجتمع إلى تحقيق مصلحة معينة. وقد تم له هذا التوفيق بما بسطه من رقابة على مشاريع نزع الملكية للمنفعة العامة، إذ لم يكتف بمجرد بسط هذه الرقابة على مقدار التعويض الذي يعطى للأفراد عوضا عما انتزع من ملكيتهم، وتقدير مدى كفاية هذا التعويض، بل امتدت رقابته لتشمل أيضا مراقبة مدى ملاءمة مشاريع نزع الملكية، والنظر في مدى الالتزام فيها بالحدود التي تحول دون أن تكون مصادمة لمصلحة عامة أخرى هي أولى منها( ).
أما في المغرب، فإن رقابة القضاء على عمليات نزع الملكية للمنفعة العامة مازالت حبيسة النظر في التعويض، ولم ترق بعد إلى تقرير مبدأ إلغاء قرار إعلان المنفعة العامة، وإن كانت هناك بعض الاستثناءات المحدودة، والتي لم تصل إلى درجة تشكيل اتجاه قضائي.( )
ولئن كان السبب في "استقالة" القضاء المغربي من الاضطلاع بدور في حماية الملكية الخاصة من تعسف الادارة، -كما اضطلع به القضاء الفرنسي - هو عدم مساعدة التشريع المغربي للقاضي المغربي، فإن هذا مما يستوجب تدخلا تشريعيا لرد الأمور إلى نصابها.
ومن أهم ما ينبغي الالتفات إليه في هذا التدخل التشريعي، تعديل الفصل الرابع من قانون نزع الملكية، والذي يحدد العقارات المستثناة من نزع الملكية.
في هذا المقال، سنبين أنه كان على المشرع المغربي أن يستثني من نزع الملكية للمنفعة العامة جميع العقارات التابعة للملك الحبسي، كما فعل مع العقارات التابعة للملك العام. وسنبدأ بالتعرف على العقارات الحبسية المستثناة من نزع الملكية (أولا)، والبحث عن علاقة المال الحبسي بالمال العام (ثانيا)، ثم معرفة الآثار المترتبة عن نزع ملكية العقارات الحبسية غير المستثناة (ثالثا)، لنخلص إلى كيفية تعويض الحماية التشريعية بحماية قضائية للعقارات الحبسية من نزع الملكية بدعوى المنفعة العامة (رابعا).
أولا : العقارات الحبسية المستثناة من نزع الملكية للمنفعة العامة.
نص الفصل الرابع من قانون نزع الملكية على أنه: "لا يجوز نزع ملكية المباني ذات الصبغة الدينية المعدة لإقامة مختلف الشعائر الدينية، وكذا المقابر، والعقارات التابعة للملك العام، والمنشآت العسكرية".
فمن خلال هذا الفصل يظهر لنا أن العقارات الحبسية التي استثناها المشرع المغربي من نزع الملكية صراحة هي: المباني ذات الصبغة الدينية المعدة لإقامة الشعائر، وكذا المقابر.
1 ـ  المباني ذات الصبغة الدينية المعدة لإقامة الشعائر:
رغم أن الفصل المذكور يتحدث عن المباني المعدة لإقامة الشعائر بشكل عام، أي مجردة عن إضافتها إلى الدين الإسلامي، مما يجعل المعنى ينصرف أيضا إلى أماكن ممارسة شعائر الديانات الأخرى غير الإسلام، ككنائس النصارى وبيع اليهود، بل هناك من قال بأن الاستثناء من نزع الملكية يلزم تطبيقه أيضا على ملحقات الكنائس ومعابد اليهود( )، إلا أنه مادام حديثنا هنا عن العقارات الحبسية، فسنقصر البحث على الأماكن المعدة لإقامة شعائر الدين الإسلامي.
وفي هذا الصدد يمكننا الرجوع إلى الفصل السادس من ظهير 06 محرم 1405هـ، 02 أكتوبر 1984  المتعلق بالأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي فيها، والذي ورد فيه: "تعتبر وقفا على عامة المسلمين ولا يمكن أن تكون محل ملكية خاصة جميع الأبنية التي تقام فيها شعائر الدين الإسلامي سواء منها ما هو موجود الآن أو ما سيشيد في المستقبل من مساجد وزوايا وأضرحة ومضافاتها".
فمن خلال هذا الفصل، يتضح أن المباني ذات الصبغة الدينية المعدة لإقامة شعائر الدين الإسلامي هي المساجد والزوايا والأضرحة ومضافاتها. لكن نعتقد أن هذه المباني هي على سبيل المثال وليس الحصر. لأن القول بغير ذلك يعني استبعاد مباني أخرى تقام فيها شعائر الدين الإسلامي، كدور القرآن، والكتاتيب القرآنية التي تكون مستقلة عن المساجد، فلا تدخل ضمن مضافاتها.
ومما يعضد هذا الاتجاه أن ظهير 1951 المتعلق بنزع الملكية للمنفعة العامة، قبل تعديله بظهير 06 ماي 1982، لم يكن يستثني من المباني المعدة لإقامة الشعائر إلا المساجد والأضرحة فقط. فلما صدر ظهير 06 ماي 1982، استعمل صيغة "المباني ذات الصبغة الدينية المعدة لإقامة مختلف الشعائر الدينية"، وهي صيغة عامة ينبغي أن تحمل على عمومها. وهكذا يكون المقصود منها كل المباني "التي تتوفر على مظاهر خارجية أو داخلية أو كلاهما معا تثبت إعدادها لإقامة الشعائر.. مع ضرورة التأكيد على أن الأمر يتعلق بالمباني لا بالأراضي".( )
ولاشك أن كل هذه المباني هي عقارات وقفية بصريح منطوق الفصل السادس من ظهير الأماكن المخصصة لإقامة شعائر الدين الإسلامي فيها السالف الذكر. وقد استثناها المشرع من نزع الملكية لما لها من قدسية عند المسلمين.
2 ـ  المقابــر:
بالإضافة إلى المباني المعدة لإقامة الشعائر، استثنى المشرع المقابر من نزع الملكية. والمقابر الإسلامية لم تستثن لكونها تدخل في حيز الملك العمومي، لأن الفصل الثاني من ظهير 19 أكتوبر 1921 المتعلق بالملك العمومي البلدي نص على أنه تدخل في حيز الملك العمومي البلدي المقابر، باستثناء المقابر الإسلامية والإسرائيلية. وإنما استثنيت المقابر الإسلامية من نزع الملكية لكونها عقارات حبسية لها حرمة خاصة في نفوس المسلمين.
وقد اعتبرت المقابر الإسلامية عقارات حبسية حتى في ظل الحماية، بموجب قرار المقيم العام المؤرخ في 12/09/1915. وهذا الاعتبار إنما هو تكريس لما نص عليه الفقهاء. فقد ورد في كتاب فقه السنة: "اتفق العلماء على أن الموضع الذي يدفن المسلم فيه وقف عليه ما بقي شيء منه من لحم أو عظم"( ). وفي المختصر الفقهي لابن عرفة محمد بن محمد التونسي (ت803هـ) نقرأ قوله: "قبر غير السقط حبس على الدفن بمجرد وضع الميت فيه، بقي أو فني". وفي مختصر الشيخ خليل: "والقبر حبس على صاحبه". كما نقل الرهوني نص ابن الحاج في المدخل وفيه: "اتفق العلماء رحمة الله عليهم أن الموضع الذي دفن فيه المسلم وقف عليه".( )
وقد أضاف الفقهاء إلى كون المقابر عقارات حبسية أنه لا يجوز نبشها أو المشي عليها أو الجلوس فوقها، أو الاعتداء عليها بأي نوع من أنواع الاعتداء التي تخل بحرمة الأموات الموجودين فيها.
غير أن هناك من يرى أنه إذا كان احترام الموتى هو أساس المنع من تطبيق نزع الملكية، فإن هذا الأساس لا يعود صالحا إذا مرت أكثر من أربعين سنة كحد أدنى على الانتهاء من الدفن في مقبرة معينة.( )
لكننا نرى أن العبرة ليست فقط بمرور وقت معين (أربعين سنة أو أكثر أو أقل) على انتهاء الدفن بالمقبرة، للقول بزوال أساس المنع من تطبيق نزع الملكية على هذه المقبرة، بل العبرة ببقاء أو عدم بقاء آثار الموتى بها، اعتبارا لكون حرمة الموتى تستمر بوجود ولو بعض آثارهم. وهنا يمكن الاستعانة بالخبراء إن اقتضى الحال، أو دعت الضرورة القصوى لنزع ملكية المقبرة دون غيرها.
 إلا أنه في الواقع العملي نجد أن المقابر أصبحت ملاذ العديد من الجماعات المحلية لتنفيذ مشاريعها، سواء كانت هذه المشاريع في حكم الضروريات كتوسيع طريق مجاور للمقبرة، أو في حكم الكماليات كإقامة حديقة عمومية، أو حتى بناء مركب رياضي!!.
ويبقى السؤال المطروح هو: هل العقارات الحبسية غير المقابر والمباني المعدة لإقامة الشعائر تبقى خاضعة لنزع الملكية، ولو كانت هذه العقارات مرصودة للإنفاق على المباني المخصصة لإقامة الشعائر، أم أن هذه العقارات تندرج ضمن العقارات التابعة للملك العام، والتي هي في منأى عن أن يطالها نزع الملكية؟
ثانيا : المال الحبسي والمال العام في قانون نزع الملكية.
إن المال الحبسي هو مجموعة الأملاك التي يعبر عنها باسم "الوقف". والوقف عرفه الفقهاء بعدة تعريفات نختار منها تعريفين نعتبرهما جامعين.
فالتعريف الأول هو لأحد الفقهاء القدامى وهو الفقيه الحنبلي ابن قدامة، والذي عرف الوقف بأنه: تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة.( )
أما التعريف الثاني فهو لأحد الفقهاء المحدثين، وهو منذر قحف، والذي عرف الوقف بأنه: حبس مؤبد أو مؤقت لمال، للانتفاع المتكرر به أو بثمرته في وجه من وجوه البر العامة أو الخاصة( ).
ومن خلال التعريفين السالفين يتضح أن أهم خاصية للمال الحبسي هو أنه يزيل ملكية الواقف للمال الموقوف، فيخرج من ذمته المالية دون أن يصير إلى ذمة الجهات الموقوف عليها، والتي لا تملك إلا الانتفاع بثمرة المال الموقوف. مما يعني أن المال الحبسي ليس مالا خاصا.
وقد أكد هذا المعنى الفصل 73 من ظهير 19 رجب 1333هـ/02 يونيو 1915م المتعلق بالتشريع المطبق على العقارات المحفظة، إذ نص على أن: الحبس أموال أوقفها المحبس المسلم، ويكون التمتع بها لفائدة أنواع المستفيدين الذين يعينهم المحبس.
كما أن الفصل السادس من ظهير 02 أكتوبر 1984 المشار إليه آنفا، أخرج من دائرة الأملاك الخاصة المباني الحبسية المذكورة في هذا الفصل، واعتبرها وقفا على عامة المسلمين.
فهل يعني خروج ما حبس من الملكية الخاصة للمحبس دخوله في الملك العام؟
إن الجواب عن هذا السؤال لن يكون إلا بالنفي، خصوصا وأن الظهير المتعلق بالملك العام البلدي، اعتبر الأحباس في فصله الثاني المشار إليه آنفا "غيرا" بالنسبة للملك العام.( )
كما أنه بالرجوع إلى ديباجة ظهير 07 شعبان 1332هـ/ فاتح يوليوز 1914م المتعلق بالأملاك العمومية، وكذا الفصل الأول منه، نستخلص أن الأملاك العمومية هي "الأملاك التي لا يسوغ لأحد أن ينفرد بتملكها.. لأنها على الشياع بين الجميع".
وهذا لا ينطبق على العقارات الحبسية، لأنها وإن كانت مما لا ينفرد أحد بتملكه، إلا أنها ليست على الشياع بين الجميع، وإنما هي مرصودة لخدمة الأغراض التي حبست من أجلها.
أما كون وزارة الأوقاف هي المكلفة بالأملاك الحبسية، فإنه لا يعني أن هذه الأملاك هي أملاك عمومية. لأنه، وإن كانت وزارة الأوقاف مرفقا عاما من مرافق الدولة، إلا أن علاقتها بالمال الحبسي هي علاقة إشراف فقط، تتخذ شكل إدارة للأحباس العامة، ورقابة للأحباس الخاصة. وهذا ما نص عليه الفصل 74 من ظهير 19 رجب السالف الذكر، والذي جاء فيه: "توجد أحباس عمومية تديرها وزارة الأوقاف، وأحباس الزوايا وأحباس خاصة تباشر عليها هذه الوزارة المذكورة حق الرقابة".
إن مهمة وزارة الأوقاف تجاه هذه الأوقاف تنحصر، حسب ما نصت عليه المادة الأولى من ظهير 23 جمادى الأولى 1414هـ/08 نونبر 1993م في شأن اختصاصات وتنظيم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في "أداء رسالة الأوقاف والمحافظة على كيانها، والعمل على ازدهار ممتلكاتها وتحسين أحوالها، للصرف منها على وجوه الخير والبر التي أوقفت من أجلها، وفي مقدمتها خدمة مصالح الدين..".
ونستنتج مما سبق أن العقارات الحبسية المستثناة من نزع الملكية للمنفعة العامة، هي فقط المباني المعدة لإقامة شعائر الدين الإسلامي، والمقابر الإسلامية. أما غيرها من العقارات التابعة للملك الحبسي، فإنها غير مستثناة من نزع الملكية. وبهذا يكون المشرع المغربي في قانون نزع الملكية قد اعتبر العقارات التابعة للملك الحبسي في مرتبة أقل من مرتبة العقارات التابعة للملك العام.
وبما أن المشرع لم يفصح عن سبب هذا التمييز، وإنما اكتفى في الفصل الخامس من الظهير المتعلق بالملك العمومي بوصف هذا الملك بأنه ذو منفعة عامة( )، فإن معيار المنفعة العامة يبدو لنا غير كاف لتفضيل الأملاك العمومية على الأملاك الحبسية، لأن هذه الأخيرة أيضا، وخاصة الأحباس العامة، هي ذات منفعة عامة. وقد نص على ذلك ظهير 16 شعبان 1331هـ/ 21 يوليوز 1913م المتعلق بنظام تحسين حالة الأحباس العمومية في بابه الخامس، والذي جاء فيه: "…كما يؤخذ منه أيضا (أي من مدخول الحبس) ما تقام به شعائر الدين، وتعليم العلم، وإعانة العلماء، والأعمال الخيرية، والمصلحة العمومية العائد نفعها على المسلمين".
وليس هناك أدنى شك في أن الأحباس العامة على الخصوص، كانت وما تزال تضطلع بأدوار مهمة، وتؤدي وظائف مختلفة. ولا يمكن لأحد أن يجادل في كون الوقف بالمغرب غدا ضمن مكونات الثروة الوطنية يشكل جزءا مهما يستفيد منه المجتمع بأكمله، ويسد حاجات أساسية غفلت عنها الدولة، أو عجزت عن سدها.
وبناء عليه، فإن عدم استثناء جميع العقارات التابعة للملك الحبسي من نزع الملكية، كما استثنيت جميع العقارات التابعة للملك العام، يبقى ـ في نظرنا ـ أمرا غير مبرر.
ثالثا : الآثار المترتبة عن نزع العقارات الحبسية غير المستثناة.
بالإضافة إلى تأثير نزع ملكية العقارات الحبسية على المصالح والأغراض التي حبست هذه العقارات من أجل تحقيقها، والتي قد تكون أولى بالرعاية والاعتبار من المنفعة المراد تحقيقها من خلال نزع الملكية، فإن في نزع ملكية العقارات الحبسية إخلالا بجعل مدخول الحبس فيما حبس لأجله، والتي اعتبرها المشرع مما جرت عليه العادة، عندما نص في الباب الخامس من الظهير المتعلق بنظام تحسين حالة الأحباس العمومية أنه: "جرت العادة بتخصيص مدخول الحبس في مصالح المحلات المحبس عليها طبق ما نص عليه المحبس".
كما أن الفصل 73 من الظهير المطبق على العقارات المحفظة نص على أن التمتع بأموال الحبس يكون "لفائدة أنواع المستفيدين الذين يعينهم المحبس".
قد يقال: "حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله"، وهذا صحيح، ولكن لا ينبغي إغفال أن احترام قصد المحبس هي مسألة في غاية الأهمية، لأن من شأن ذلك أن يشجع الناس على تحبيس ممتلكاتهم، عكس ما إذا لم يطمئنوا على تحقيق الأغراض التي من أجلها حبسوا.
لقد أصبح إحساس عام بأن العقارات الحبسية صارت مهددة بنزع ملكيتها من شتى إدارات الدولة، التي تفضل أن يتم نزع ملكية العقارات الحبسية بدل نزع ممتلكات الأفراد. وهذا الأمر لم يعد مستورا، مما جعل الرغبة في التحبيس تتضاءل باستمرار.
لذلك ينبغي حماية العقارات الحبسية قضائيا، في انتظار تدخل المشرع لتعديل الفصل الرابع من قانون نزع الملكية، وجعل الاستثناء الوارد فيه يشمل جميع العقارات التابعة للملك الحبسي.
رابعا : حماية العقارات الحبسية قضائيا من نزع الملكية.
إننا إذا كنا نتفق مع الأستاذ البشير باجي في أن القانون لم يجعل نزع ملكية العقارات الحبسية مشروطا بموافقة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، فإننا نختلف معه في قوله بأنه ينبغي العدول عن استشارة هذه الوزارة، تفاديا لتعقيد المسطرة، ولأنه -حسب رأيه- لا داعي لهذه الاستشارة.( )
ونرى أن القانون عندما فرض استشارة وزارة الداخلية حرصا على الأمن العام في مفهومه المادي، كان عليه أن يفرض أيضا استشارة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حرصا على الأمن العام في مفهومه الروحي.
وما دام الأمر اختياريا، فإننا لا نتوقع أن يتم إقناع الجهة النازعة بضرورة التراجع عن نزع ملكية العقارات الحبسية، ولو ثبت أن في ذلك إجهازا على المنفعة العامة التي يحققها استمرار العقارات الحبسية، أي ولو كان ذلك على حساب الأمن الروحي أو الاجتماعي.
وهكذا يبقى أمام وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الاكتفاء بالمنازعة في مقدار التعويض في المرحلة القضائية من مسطرة نزع الملكية، أما الطعن في مقرر نزع الملكية فيحتاج إلى إقامة دعوى مستقلة.
1 - حماية العقارات الحبسية خلال المرحلة القضائية لمسطرة نزع الملكية:
إن المرحلة القضائية من مسطرة نزع الملكية لا تتيح أي إمكانية لمناقشة مدى توفر المنفعة العامة في مشروع نزع الملكية.
فدعوى نقل الحيازة بطبيعتها الاستعجالية لا تسمح بمثل هذه المناقشة التي لها علاقة بالجوهر، إذ تنحصر مهمة قاضي المستعجلات في هذه الدعوى في التأكد من احترام الجهة النازعة للمسطرة، والتي لا تدخل ضمنها ضرورة توفر شروط المنفعة العامة.
وهذا ما نقرأه في حيثيات عدد من الأوامر الاستعجالية، كالأمر الاستعجالي الصادر عن السيد رئيس المحكمة الإدارية بوجدة تحت عدد:30/2001، والذي جاء فيه: "حيث إن الفصل 24 من ظهير 6 ماي 1982 المتعلق بنزع الملكية ينص على أنه لا يجوز لقاضي المستعجلات رفض الإذن بالحيازة إلا بسبب بطلان المسطرة. وحيث قدرنا من خلال الوثائق المدلى بها أنه لا وجود لما يجعل مسطرة نزع الملكية باطلة، خاصة وأن الأجل المنصوص عليه في الفصل 17 قد روعي، مما يتعين معه الاستجابة للطلب، والأمر تبعا لذلك بالإذن للمدعي في الحيازة الفورية للقطعة الأرضية محل النزاع".
ونفس الحيثيات كررها الأمر الاستعجالي الصادر عن السيد رئيس المحكمة الإدارية بالرباط تحت عدد: 89/2002.
لذلك فإن دفوعات الأوقاف في دعوى الحيازة تركز إما على التفويض للقاضي في أمر مراقبة مدى احترام الإجراءات المنصوص عليها في قانون نزع الملكية، أو إبداء بعض ما يظهر لها من عدم احترام لهذه الإجراءات، كعدم احترام أجل السنتين المنصوص عليه في الفصل 7 من القانون المذكور، أو عدم إجراء بحث إداري، أو عدم إيداع التصميم بمقر الجماعة، أو عدم الإدلاء بما يفيد تسجيل مقرر نزع الملكية بكتابة ضبط المحكمة.
غير أننا وجدنا بأن هذه الملاحظات أيضا لا تشكل مبررا كافيا لرفض طلب الحيازة. فمثلا نجد الأمر الاستعجالي الصادر عن السيد رئيس المحكمة الإدارية بمكناس تحت عدد: 11/95 يرد على هذه الملاحظات بما يلي :
- إنه يجب احتساب أجل السنتين المنصوص عليه في الفصل 7 من تاريخ صدور المرسوم المعلن للمنفعة العامة، لأن مقرر التخلي لم يصدر مع هذا المرسوم.
- إن البحث الإداري هو إجراء أولي يمهد لاستصدار مرسوم إعلان نزع الملكية في أحسن الظروف، ودون عراقيل، والفصل 10 من قانون نزع الملكية لم يرتب عن تأخر صدور المرسوم أي أثر.
- إن التصميم ليس سوى رسم بياني مكمل لنفي الجهالة عن العقارات المنزوعة ملكيتها، ولا يؤثر عدم الإدلاء به في الدعوى مادام نازع الملكية قد أدلى بما يفيد النشر والإلصاق والإعلان بمقر الجماعة.
- إن المدعي (الجهة النازعة) قد أدلى - خلافا لما يدعيه المدعى عليه - بشهادة تثبت تسجيل دعوى نقل الملكية بكتابة ضبط المحكمة.
أما بمناسبة دعوى نقل الملكية، فإن الجهة النازعة تكون قد حازت العقارات الحبسية المنزوعة، ولا يصدر الحكم النهائي بشأنها إلا بعد أن يكون المشروع المزمع إقامته قد تم فعلا أو قطع أشواطا بعيدة، يصعب معها الحديث عن إمكانية التراجع عن هذا المشروع، حتى وإن ثبت أنه لا ينضبط لضابط المنفعة العامة.
كما أن المشرع جعل من دعوى نقل الملكية دعوى للتقاضي حول التعويض الذي يستحقه ذوو الحقوق على العقارات المنزوعة ملكيتها.
لذلك، فإننا نجد إدارة الأحباس تركز دفوعاتها في دعوى نقل الملكية على محاولة الرفع من قيمة التعويض، بالنظر إلى أن "القطع الحبسية محل النزاع لها ميزة استراتيجية، وهي ميزة تزيد من قيمتها بلا ريب، لكونها بنائية، وتقع في المدار الحضري، ويزيد ثمن المتر المربع بعين المكان عن (كذا) درهم". ومن ثم فإن "مبلغ التعويض المقترح من طرف الخبير والمحدد في مبلغ (كذا) درهم، جاء مجحفا في حقها، ولا يتلاءم بتاتا مع القيمة الحقيقية للمدعى فيه".
وأحيانا تلتمس إدارة الأحباس إجراء خبرة مضادة، لأن "قيمة التعويض المقترح للقطع الأرضية موضوع الدعوى لا تغطي الضرر الذي سيلحق بإدارة الأحباس، كما أن الخبير لم يكن موضوعيا في تقديره لقيمة هذه القطع، وذلك لمحاباته الواضحة للجهة النازعة، بحيث لم يوضح العناصر والمعطيات الذاتية والموضوعية للمدعى فيه، التي توصل من خلالها إلى تحديد تقديره للتعويض الواجب، سيما وأنه لم يتطرق إلى عنصر جد مهم كان من شأنه مساعدته على التوصل إلى تقدير، إن لم يكن مطابقا تماما لقيمة الأرض، فإنه سيكون على الأقل مقاربا له، ألا وهو ثمن بيوعات العقارات المجاورة خلال الفترة التي صدر فيها قرار نزع الملكية".( )
ولا يفهم مما سبق أن معارضة الأوقاف لمبلغ التعويض المحدد من طرف الخبير هي معارضة آلية، بل إنه كثيرا ما نجدها تلتمس المصادقة على مبلغ التعويض المحدد.
وهكذا نقرأ مثلا في حيثيات القرار الصادر عن المحكمة الإدارية بوجدة تحت عدد: 111/2001 ما يلي: "حيث عقب دفاع الجهة المدعى عليها نظارة أحباس الناظور ملتمسا المصادقة على المبلغ المحدد من طرف الخبير...".
وجاء في القرار الصادر عن المحكمة الإدارية بمكناس تحت عدد:26/96/10ت: "حيث إن طلب نقل الملكية قد أسس على المرسوم المشار إليه أعلاه، وعلى الفصل 18 من القانون 81/7، ولم يلق أي تعرض من جهة الطرف المدعى عليه (الأحباس). لذلك لا يسع المحكمة والحالة هذه، إلا الحكم وفق ما جاء في المقال فيما يتعلق بالشق المتعلق منه بطلب نقل الملكية لأجل المنفعة العامة".
أما المجلس الأعلى باعتباره درجة استئنافية للقرارات الصادرة عن المحاكم الإدارية في موضوع نقل الملكية، فإنه وبصريح الفصل 32 من قانون نزع الملكية، لا يمكن أن يبت إلا في الشق المتعلق بالتعويض، ولا يدخل ضمن اختصاصه في هذا المجال مراقبة عنصر المنفعة العامة.
2 - حماية العقارات الحبسية عن طريق الطعن في مقرر نزع ملكيتها:
نص الفصل 38 من قانون نزع الملكية على أنه "لا يمكن لدعاوى الفسخ أو الاستحقاق وجميع الدعاوى العينية الأخرى أن توقف قرار نزع الملكية، أو تحول دون إنتاج آثاره".
ويفهم من هذا الفصل أنه يمكن إقامة الدعاوى الأخرى غير دعاوى الفسخ والاستحقاق والدعاوى العينية. ومن ذلك دعوى الإلغاء للشطط في استعمال السلطة.
ومن ثم فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يمكنها إذا رأت بأن المشروع المزمع إنجازه لا يكتسي صبغة المنفعة العامة، أن تطعن في مقرر إعلان المنفعة العامة أمام المجلس الأعلى، داخل أجل ستين يوما من تاريخ نشره أو من تاريخ تبليغه إذا تعلق الأمر بعمليات أو أشغال تهم الدفاع الوطني، وتم اختيار تبليغ ذوي الحقوق بالمقرر بدل نشره.( )
 وعلى الرغم من صعوبة تعريف مفهوم المنفعة العامة تعريفا دقيقا، لأنه لم يعرف قيودا معينة محددة مسبقا أمام تداخل عدة عوامل( )، فإننا نقترح أن يتم التعامل معه بمفهوم الضرورة العامة. بحيث إذا لم يكن مشروع نزع الملكية يشكل ضرورة قصوى بالنسبة للمجتمع، أكبر من الضرورة التي يكتسيها استمرار العقارات الحبسية، فإنه آنئذ ينبغي لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية أن تطعن بالإلغاء في مقرر إعلان المنفعة العامة.
غير أنه بالرجوع إلى أرشيف هذه الوزارة، لا نجد سابقة في هذا الاتجاه. ولا ندري ما إذا كان السبب في ذلك يرجع إلى عدم اقتناعها بهذا المسلك، أو إلى اقتناعها بأن جميع المشاريع التي تم فيها نزع ملكية العقارات الحبسية، تتوفر فيها المنفعة العامة أكثر من المنفعة العامة التي تحققها العقارات الحبسية نفسها.


صفحتنا على الفيس بوك